جمال عبدالناصر.. زعيم ضد الاحتواء

د. عاصم الدسوقي
منذ انطلقت الحركة الوطنية بين شعوب العالم الثالث للتحرر من الاستعمار ونجاح القيادات الوطنية فى اعتلاء سلطة الحكم فى بلادها، سعت دول
المركز الاستعمارى للمحافظة على مصالحها فى مستعمراتها القديمة بمختلف الوسائل فى مقدمتها المعونات الاقتصادية كما هو معروف. وكانت إحدى الوسائل ولا تزال، العمل على احتواء الزعامات الوطنية بمختلف وسائل الإغراء لكى تطويها تحت جناحها ومن ثم تحقق مصالحها بأيدى أولئك الوطنيين أنفسهم وتلك قمة المأساة. وقد ساعدهم على النجاح فى ذلك الاحتواء استجابة بعض تلك القيادات لخطاب الإغراء دون وعى فانتهى الأمر بهم وببلادهم إلى الوقوع فى قبضة الإمبريالية الجديدة، إلا جمال عبدالناصر الذى عجز الغرب عن احتوائه فنال غضبهم، وهذا هو موضوعنا.
لقد كان الرجل يعى أساليب الاحتواء ويفهم لغة الغرب الناعمة للوصول إلى هدفه حتى لقد كان يقول: إذا أعدائى اللى أنا عارف إنهم أعدائى مدحوني.. فمعناه إنى ماشى غلط.. وطول ما بيشتمونى فمعناه إنى ماشى صح. والمعنى أن المديح مكافأة على الاستمرار فى السياسة الموالية لأولئك الأعداء.. والعكس صحيح. وكان يستمع يوميا إلى نشرة أخبار الإذاعة البريطانية باللغة العربية.. فإذا ما انتقدوه اطمأن على سلامة طريقه وإذا لم ينتقدوه بحث عن الخطأ الذى ارتكبه. وفى هذا الخصوص لنا أن نتأمل بعض كلماته الكاشفة لخطاب الإغراء والاحتواء والابتزاز.. فعندما أوقفت أمريكا مباحثات حصول مصر على القمح (21 ديسمبر 1964) قال بعد يومين وفى مناسبة الاحتفال بعيد النصر (23 ديسمبر): "نحن لا نبيع استقلالنا من أجل القمح.. وإن المساعدات الأمريكية لا تعطى الحق لأمريكا لتفرض سياستها على مصر.. واللى مش عاجبه كلامنا يشرب من البحر.. وإذا كان البحر الأبيض لا يكفيه.. قدامه البحر الأحمر كمان". وفى 14 أبريل 1966 قال: "إننا لم نعد نريد قمحا أمريكيا طالما كان المقابل تمرير صفقات سلاح لإسرائيل".
وكل الحكاية أن عبدالناصر لم يسمح لخصومه أن يبتزوه، ولم يسمح لنفسه أن تخضع لكلمات الإغراء وعبارات المديح الجوفاء، وجاءت قوته هذه من استقامته.. فلم يطرأ على نمط معيشته فى المأكل والملبس أى تغيير بعد رئاسته. وعندما اقترح البعض تعيينه رئيسا مدى الحياة رفض الاسترسال فى هذا الحديث إذ أدرك روح النفاق وراء الاقتراح، وعندما سعى البعض لإقامة قرية بنى مر بشكل نموذجى ووضعت لافتة على الطريق المؤدية إليها رفض وقال: يجب أن نبنى أولا خمسة آلاف قرية نموذجية فى مصر وبعدها يأتى الدور على بنى مر، وهى إشارة لعدد القرى المصرية آنذاك. وتلقى ملايين الجنيهات باسمه من شخصيات على سبيل التبرع ففتح حسابا جاريا بالبنك الأهلى تودع فيه هذه التبرعات، واستخدمها للصالح العام فى شكل تبرعات كما وردت له، مثل التبرع لاستكمال بناء مسجد منشية البكرى بعد أن عجزت الجمعية الخيرية التى تبنيه عن استكماله. وعندما مات كان فى هذا الحساب مليونان ونصف المليون جنيه بينما بلغ حسابه الخاص 610 جنيهات مصرية.
ومن مظاهر استقامته أنه كان يدخن السيجارة الإنجليزية دانهل Dunhill فلما بدأت علاقاته تتأزم مع إنجلترا وجد أنه من العيب أن يظل يدخن تلك السيجارة. ويبدو أنه صارح بعض المقربين بتلك المشاعر ولهذا تم إنتاج سيجارة مصرية باسم كليوباترا لتكون بديلا اعتزازا بموقفه حتى لا يقول له أحد كيف تهاجم إنجلترا وتدخن سيجارة إنجليزية؟.
ولم يكن يحب الاحتفال بعيد ميلاده بشكل رسمى وكانت هناك تعليمات للصحف بعدم نشر أى شيء فى هذا الخصوص. فإذا حضر أحد الأصدقاء أو الأقرباء لبيته فى هذا اليوم يتناول معه الشاى وبعض الحلوي.
لم يكن متطرفا ذات اليمين أو ذات اليسار بل كان وسطيا معتدلا بتأثير مناخ مصر المعتدل وهى الصفة التى يتحلى بها غالبية المصريين، وحمل فى وجدانه ميراث التدين الذى تبلور عند المصريين القدماء من الإيمان بالغيب واشتهروا به عبر التاريخ. ومن هنا كانت الرحمة والبر والعطف من خصاله، وهى التى كانت وراء سعيه لرفع الظلم والمعاناة التى رآها بنفسه بين الفلاحين فى قرى وأهل الحارة فى المدن.. فكان تعديل أحوال الفلاحين بالإصلاح الزراعى، وتعديل أحوال العمال بالقوانين التى تمنع الفصل التعسفى وتأمين حياتهم، ورعاية الموظفين بتخفيض إيجارات المساكن.. إلخ، وكان هؤلاء وأولئك وغيرهم هم الذين شعروا باليتم الحقيقى حين مات.
ولا يمكن لأحد كائنا ما كان أن يزايد على إخلاص عبدالناصر، ووطنيته، والتزامه بقضايا أمته.. ولما فشل أعداؤه فى احتوائه لم يكن أمامهم إلا التخلص منه.. ومات.. وشهد له الجميع بأنه ضد الاختراق وصعب الاحتواء.. فمنذ وفاته وحتى أيامنا هذه لا يجد المناضلون ضد الهيمنة الغربية والمطالبون بالعدالة الاجتماعية، إلا صورته يرفعونها فى مظاهراتهم بديلا للشعارات المكتوبة.
ومع ذلك لا يزال عبدالناصر يتعرض لحملة ضارية تريد أن تزيل صورته من قلوب الذين أحبوه.. فمنذ مطلع سبعينيات القرن الماضى ولا حديث لخصومه وأعدائه إلا القول إن عبدالناصر كان حاكما ديكتاتوريا أخذ أموال الأغنياء، ولم يحقق الديمقراطية التى وضعها كأحد أهداف الثورة الستة. وهذا تزييف حقيقى لوقائع التاريخ فلم يسأل هؤلاء الأغنياء أنفسهم من أين أتوا بهذا المال.. كما أنهم لا يرون فى تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50% فى الهيئة التشريعية (مجلس الأمة) وفى التنظيم السياسى أية ديمقراطية.. فالديمقراطية فى رأيهم لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود الباشاوات والبكوات، وغفلوا عن وجود الرأسمالية "الوطنية" فى الهيئة التشريعية منذ أول مجلس أمة فى 1957، وفى التنظيم السياسى (الاتحاد الاشتراكي) بعد إنشاء القطاع العام كأحد قوى تحالف الشعب العامل، لكنها رأسمالية غير مستغلة لأنها تخضع لسيطرة الدولة ممثلة فى القطاع العام فيما يتعلق بالأجور والأسعار وقوانين العمل.. إلى آخر هذه الأمور المعروفة.
لكن كدابين الزفة الذين قفزوا من مركب جمال عبدالناصر حال وفاته وتعلقوا بمركب الثورة المضادة التى أمسك بدفتها أنور السادات فى 15 مايو 1971 فهموا إشارات السادات التى تلقاها عبر الأطلنطى ومن ثم جندوا أقلامهم وأبواقهم للنيل من عبدالناصر على المستوى الشخصى وعلى مستوى سياساته الوطنية والعربية والإقليمية والعالمية لا لشيء سوى تبرير خروج الحكم على سياسات عبدالناصر ومنجزاته الشعبية، وأصبح من المعتاد حتى اليوم أن نسمع من أحد المسئولين الجدد أو من حملة المباخر أو من أصحاب الأعمدة الثابتة فى الصحف الرسمية أو المعادية لثورة يوليو فى تحليلهم لأسباب بعض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التى تمر بها مصر منذ تلك السبعينيات أن يقولوا "إن هذه الأزمة أو تلك تعود إلى ثورة يوليو بما فى ذلك الزحام فى الشوارع الممتلئة بالقمامة، والهدف النهائى فتح الطريق أمام سيطرة أصحاب رأس المال الجدد، وخلق مشروعية لهم فى حماية الشوارع من الازدحام ومن القمامة ومع ذلك يفشلون. ولكن هيهات.. فالجيل الذى عاش تحت رعاية جمال عبدالناصر وشعر بكرامته لا يزال موجودا ونقل إلى أبنائه دروس الحقبة الناصرية.. ولهذا فكلما رأوا مصر تتراجع عن دورها الإقليمى والعالمى تذكروا عبدالناصر.. وكلما رأوا عجز الطبقة الوسطى عن الصمود أمام استغلال الأغنياء الجدد ترحموا على الزعيم الذى قام بالثورة من أجلهم. وقد فشل هؤلاء الخصوم فى إهالة التراب على سيرة الزعيم أو نزع صورته من قلوب محبيه رغم كل محاولاتهم المستميتة سنين عددا، ولم يكسبوا إلا احتقار أهل الحق خصوصا ونحن نشهد تراجع كثير من منتقديه وشاتميه عن سابق اتهاماتهم له بعد أن رأوا ما رأوا.. إيمانا منهم بأن الرجوع إلى الحق فضيلة.
فى سبتمبر 2001 كنت فى باماكو عاصمة جمهورية مالى غرب إفريقيا أحضر مؤتمر إتحاد المؤرخين الأفارقة. وعند بداية المؤتمر كان المشاركون يتعرفون على بعضهم بعضا وسألنى أحد الأساتذة هناك عن بلدى فقلت له: أنا من مصر.. فقال: مصر.. جمال عبدالناصر.. صدق الله العظيم.
إن تلك الكلمات أهديها لكل من يريد إطفاء نور الشمس ولكن الله يتم نوره رغم كره الكارهين وحقدهم الدفين.