أين ذهبت الأنجازات والثروة القومية وما صرح به عبدالناصر من الأرقام والإنجازات الإقتصادية - خطبة 9 يوليه 1960

خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في افتتاح المؤتمر العام للاتحاد القومي
9 يوليه 1960

عبدالناصر يتكلم عن الأرقام والإنجازات الإقتصادية خطبة 9 يوليه 1960

أيها المواطنون أعضاء المؤتمر العام للاتحاد القومي للجمهورية العربية المتحدة:

في أروع اللحظات من عمر أمتكم تعيشون الآن، وعلى نقطة الحسم والفصل من قدرها تقفون هذا الموقف، وعلى آثار خطاكم من هنا سوف يتحدد المستقبل، ويتقرر مصير وطنكم العربي سواء في قوته الذاتية، أو في مكانته بين أوطان غيركم من الشعوب.

لقد دخلت معكم إلى هنا، إلى هذه القاعة التي تجلسون فيها الآن، تيارات تاريخية كبرى، بل إن هذه التيارات هي التي دفعت بكم إلى هذا المكان، سواء منكم هؤلاء الذين وصلوا إلى هنا باعتبارهم ممثلين للقاعدة الشعبية، أو الذين وصلوا إليه باعتبارهم ممثلين لاتجاهات الفكر البارزة في البلاد.

لقد دخلت معكم - بل دخلت بكم إلى هنا - ثلاث ثورات مجيدة عاشتها الأمة العربية، عاشتها وعاشت لها، كافحت فيها وكافحت من أجلها، ناضلت وصمدت، قاست وصبرت، شدها العذاب في بعض الأحيان، ودفعها الأمل في كل الأحيان، حتى قطعت الطريق الطويل إلى هنا، حيث تلتقي الثورات الثلاث لكي تتفاعل معا وتنسجم، ولكي تكون نقطة لقائها لحظة البعث الجديد لأمتنا، ولتخرج من بين آثار التاريخ وذكرياته حياة جديدة خصبة وخلاقة.

أيها المواطنون:

لقد دخلت معكم - بل دخلت بكم إلى هنا - ثلاث ثورات مجيدة؛ ثورة وطنية في كل قطر عربي، تحفزه إلى مجابهة الاستعمار وإلى قتاله، حتى تسقط أعلامه الدخيلة ولا تعود ظلالها القاتمة تفرض الظلام على أرضه.

ثورة عربية في كل قطر عربي تحفزه إلى تخطى الأسوار، وإلى كسر الحواجز؛ سواء منها الأسوار والحواجز المادية التي تتمثل في الحدود التي اصطنعها الدخيل الغاصب، أو الأسوار والحواجز المعنوية التي تتمثل في الشكوك التي زرع بذورها نفس الدخيل الغاصب.

ثورة اجتماعية في كل قطر عربي تحفزه إلى طلب الحياة لكل فرد من أفراده تحقيقا للعدل، إيمانا بأن العدل الاجتماعي هو الركيزة الوحيدة التي يمكن أن يستقر عليها الكيان الوطني لأي شعب من الشعوب.

هذه - أيها الإخوة المواطنون - هي الثورات الثلاث التي دخلت معكم.. دخلت بكم إلى هنا.
وهذا هو المعنى الحقيقي لهذه اللحظات التي تعيشونها الآن، وتلك هي القيمة الغالية لنقطة الحسم والفصل التي تقفونها، ومن هنا بالتالي خطورة المسئولية التي تتلقاها أيديكم، هذه الأيدي التي يتعين عليها أن تشكل ملامح المستقبل في الجمهورية العربية المتحدة..

وطننا؛ الذي هو في نفس الوقت طليعة النضال العربي الحر، وقاعدته وقلعته؛ من المحيط إلى الخليج.

ذلك أنه عليكم - بوصفكم السلطة العليا في هذه الجمهورية العربية المتحدة - أن تحولوا الطاقات الروحية الهائلة لهذه الثورات الثلاث المجيدة إلى واقع حي، يصون لها جميعا أهدافها، ويكرم إلى الأبد أبطالها حين يضمن أن التضحيات التي بذلها هؤلاء الأبطال بقيت لأمتهم آثارها، ثم ليكون هذا الواقع الحي شعاعا هاديا لنضال غيرنا من الشعوب العربية التي تحاول الآن بكل قواها لكي تدفع الظلام النازل عليها حتى تجد لنفسها مكانا تحت الشمس.

أيها المواطنون:

على أننا لا نحتاج إلى المعجزات لكي نقدر على الوفاء بما هو واجب علينا تجاه مسئولية التاريخ أو تجاه مسئولية المستقبل، إنما الشيء الوحيد الذي نحتاجه هو العمل.. عمل يقوده الوعي المستنير، وتدفعه الإرادة المصممة.

وإذا كنا نشفق على أنفسنا من مواجهة تبعات هذا العمل الضخم الذي فرضته علينا مسئولية ثلاث ثورات في وقت واحد معا، فإن علينا أن نذكر أن أمتنا عاشت هذه الثورات معا في ظروف أبلغ صعوبة وأشد خطرا.

لقد كانت أمتنا خلال ثورتها الوطنية تحارب معارك ثورتها العربية، وتخوض في نفس الوقت غمار ثورتها الاجتماعية. كانت حربنا من أجل الاستقلال تدور على نفس الجبهة مع حربنا من أجل الوحدة ومع حربنا طلبا للعدالة الاجتماعية.

وكانت جماهيرنا تدرك بوعيها الأصيل وفطرتها السليمة أن هذه الثورات الثلاثة لا انفصال بينها، وكان مما يعزز هذا الإدراك أن الذين كنا نحارب معارك ثوراتنا الثلاثة ضدهم، جمعهم معا ترابط مصالحهم وتشابك مطامعهم.

هكذا حاولوا جبهة واحدة أن يتصدوا لزحفنا.

وهكذا حاولت ثوراتنا الثلاث صفا واحدا أن تقتحم لتنتصر.

ولقد أكدت تجارب كفاحنا هذه الحقيقة. فلقد كانت كل هزيمة للاستعمار في الثورة الوطنية من أجل الاستقلال هي انتصار للثورة العربية طلبا للوحدة، وهى انتصار للثورة الاجتماعية تحقيقا للعدل.

وكانت كل هزيمة لدعاة الفرقة بناة الحواجز المصطنعة، هي انتصار للثورة الوطنية من أجل الاستقلال، وهى انتصار للثورة الاجتماعية تحقيقا للعدل.

وكانت كل هزيمة للإقطاع وللاستغلال ولسيطرة رأس المال هي انتصار للثورة الوطنية والثورة العربية.

ولقد كان نجاح الشعب السوري في انتزاع استقلاله من فرنسا - وسط الظروف المخيفة للحرب العالمية الثانية - مثالا رائعا لقدرة الشعوب المؤمنة على تحقيق أهدافها في أشد الظروف قسوة وأكثر الطرق وعورة ووحشة.

ولقد كان هذا النجاح الرائع مقدمة لما بعدها خارج حدود سوريا، فلم تكد الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها حتى كانت الموجة العارمة الهادرة من أجل الاستقلال تغمر العالم العربي كله وتدفع قوى الاحتلال إلى البحر.

كذلك لم يكد الشعب السوري ينتزع استقلاله حتى بدأت مقاومته العنيدة ضد الإقطاع، إلى أن حقق هذا الشعب العظيم أحد آمال كفاحه الكبرى بصدور قانون الإصلاح الزراعي وتطبيقه في سوريا بعد الوحدة؛ إرساء لقواعد العدالة الاجتماعية.

وكذلك كان نجاح الطلائع الأولى للثورة الاجتماعية في مصر، بصدور قانون الإصلاح الزراعي الذي حطم الإقطاع الذي كانت الأسرة المالكة تمثل قمته، هو المقدمة المنطقية للانتصار في الثورة الوطنية التي استطاعت إخراج جيش الاحتلال البريطاني من قاعدة قناة السويس.

وإذا كان كسر السلاح - لإقامة الجيش الوطني القوى - مشهدا من مشاهد المعركة الوطنية في مصر ضد تحكم الاستعمار، فلقد كان في نفس الوقت مشهدا رائعا من مشاهد الهزيمة الساحقة التي لقيها حلف بغداد في محاولته لتطويق البلاد العربية، كذلك كان في نفس الوقت حماية لابد منها للثورة الاجتماعية حتى لا تسقط ثمراتها ونتائجها كغنائم الحرب في يد إسرائيل التي جعلها الاستعمار ترسانة للسلاح وسط بلادنا العزلاء.

ولقد كان التفكير في بناء السد العالي جزءا من العمل الثوري في معركتنا من أجل العدل الاجتماعي، ولكن تصدى الاستعمار لهذا العمل حول النضال من أجله إلى المجال الوطني؛ فلقد تخلت أيدينا عن أحجار البناء لتمسك بالقنابل، ونزل شبابنا من الجرارات ليقودوا الدبابات، وتركنا عملية تمهيد الأرض التي كنا نريد أن نعدها انتظارا لمياه السد لكي ننطلق إلى جبهة القتال نحفر الخنادق انتظارا للعدو. وكان أكبر عون لنا أن الثورة العربية أكدت أصالتها، فإذا معركتنا الوطنية تتحول إلى حرب عربية شاملة، ولم تعد قوانا وحدها هي التي تواجه الغزو، بل أصبحت كل قوى الأمة العربية تخوض معنا المعركة، وأصبحت البلاد العربية كلها على كل شبر من امتداد أرضها ميدانا للقتال.

وعلى هذا الأساس فإن تأميم قنال السويس الذي كان من ناحية التوقيت طلقة في معركة الكرامة الوطنية، كان من ناحية الهدف طلقة في معركة العدل الاجتماعي حين رصد دخل القناة للبناء والتصنيع والتطوير، كذلك كان من ناحية المعنى طلقة في معركة الوحدة حين أثبت للأمة العربية أن شعوبها إذا ما استجمعت إرادتها، وإذا ما استوحت ضميرها، قادرة على أن تتحدى جبروت الاستعمار، قادرة على أن تعيد كتابة تاريخها، قادرة على أن تعيد رسم خريطة أرضها.

كذلك كان نجاح الشعب السوري الرائع في الحفاظ على استقلاله في مواجهة المؤامرات والمناورات من حلف بغداد سببا في احتفاظ هذا الشعب المجيد بإرادته الحرة التي استطاع بها أن يفرض التجربة الأولى للوحدة العربية وذلك بإقامة الجمهورية العربية المتحدة. وكانت تلك بدورها هي المقدمة المنطقية لثورة شعب العراق وجيش العراق في ١٤ يوليو، هذه الثورة التي انتهى بها حلف بغداد الاستعماري، وانتهى بها في نفس الوقت بعض الذين انحرفوا بكفاح الأمة العربية وهبطوا به من الذروة التي رفعته إليها تضحيات الشباب العربي المؤمن، وحولوه إلى تسول للعروش واستجداء للتيجان منة من المستعمر ومنحة وأجرا.

هكذا ترون كيف امتزجت معارك ثورتنا داخل كل جزء من الوطن العربي، وهكذا ترون كيف امتزجت على اتساع الكل من أرجاء الوطن العربي.

هكذا يثبت لنا أيها الإخوة:

- أن أمتنا العربية التي عاشت ثوراتها الثلاث معا قادرة على أن تواجه مسئوليات هذه الثورات الثلاثة في نفس الوقت.

- أن الجمهورية العربية المتحدة بوضعها الطليعي تتحمل اليوم مسئولية كبرى تجاه النضال العربي كله.

- أن مؤتمركم - بوصفه السلطة العليا في هذه الجمهورية العربية المتحدة - يتحمل اليوم مسئولية ما استطاعت معارك الثورات الثلاث أن تبلوره وتحدده لكي يمضى بها إلى غاياتها الكبرى.

ولقد تبلورت الثورة الوطنية وتحددت في عقيدة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز باعتباره طريقا إلى السلام العالمي.

وتبلورت الثورة العربية وتحددت في عقيدة القومية العربية باعتبارها طريقا إلى الوحدة العربية.

وتبلورت الثورة الاجتماعية وتحددت في عقيدة الاشتراكية الديمقراطية التعاونية باعتبارها طريقا إلى العدل الاجتماعي.

أيها المواطنون:

ولقد كان المعنى الحقيقي لهذا الذي بلورناه وحددناه هو أن تجاربنا الثورية العظيمة وصلت بنا إلى عقائد واضحة تحتاج منا الآن إلى أن نضع في خدمتها كل قوة الدفع الثوري لدينا لكي تصبح هذه العقائد هي حركتنا الدائمة إلى أهدافنا.

إن تجربتنا الثورية الوطنية ضد الاستعمار جعلتنا دعاة سلام، وتجربتنا الثورية العربية ضد الفرقة جعلتنا دعاة وحدة، وتجربتنا الثورية الاجتماعية ضد الاستغلال جعلتنا دعاة عدل.

ولقد وجدنا عقيدة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز طريقنا إلى طلب السلام، بعد معارك مريرة ضد الاستعمار بأقنعته المختلفة ابتداءا من الاحتلال السافر، إلى معاهدات التحالف الثنائية غير المتكافئة، إلى الأحلاف العسكرية ومناطق النفوذ.

ولقد خاض شعبنا طوال أجيال متصلة حربه المقدسة دون توقف، ضد كل هذه الأشكال والصور، ولما أرغم الاحتلال الفرنسي على الخروج من سوريا وأرغم الاحتلال البريطاني على أن يوقع صك خروجه من مصر استجمع شعبنا العربي كل يقظته وانتباهه لكي لا يسمح للاستعمار أن يدخل من النافذة بعد أن اضطر للخروج من الباب.

ورغم كل محاولات الإغراء، ورغم كل محاولات الضغط ورغم كل محاولات التهديد، بل رغم العدوان والحرب الدموية، فإن شعبنا كان رائعا في صلابته وإصراره على أن يحمى الاتجاهات الوطنية لثورته السياسية.

ولقد كان إيماننا الذي أكدته التجارب أن الشعوب لا تستطيع أن تبنى مستقبلها بالحياة تحت أقدام الدول الكبرى أو بالاستكانة والخضوع لأسوار مناطق النفوذ، وإنما كان يقيننا أن الشعوب لا يبنيها إلا تحرير إرادتها، وإلا تكريسها هذه الإرادة المتحررة لإعادة بناء نفسها، وإلا إيمانها برسالتها الإيجابية باعتبارها عضوا في المجتمع الدولي تتأثر به وتؤثر فيه، تأخذ منه وتعطيه؛ حتى تستطيع أن تؤدى دورها في هذا المجتمع الذي تشتد به الحاجة إلى مشاركة واسعة من كل أفراده تمكينا للحرية وتدعيما للسلام.

هكذا كان اتجاهنا؛ اتجاه ثورتنا الوطنية بعد حروب الاستقلال، بل حتى خلالها، هو عدم الانحياز والحياد الإيجابي.

ولم يكن ذلك الطريق هو أسهل الطرق كما يبدو للوهلة الأولى وإنما كان أصعبها؛ ذلك أن عدم الانحياز ليس نظرة أنانية إلى أحداث العالم لا تحفل بما يجرى حولها، وإنما كان عدم الانحياز والحياد الإيجابي أن يكون لنا رأينا المتحرر من أي التزام في كل مشكلة تواجه عالمنا، رأيا يستهدف السلام ويجعل ميثاق الأمم المتحدة - نصا وروحا - طريقا إلى هذا السلام.

وكان معنى ذلك أن لا يكون صوتنا في المحافل الدولية مجرد صوت يحسب تلقائيا مع رصيد كتلة من الكتل، ويجمع أو يطرح من قائمة الحساب على أساس موقف دولة من الدول الكبرى متزعمة سياسة المعسكرات.

وكان هذا - أيها الإخوة المواطنون - يستتبع أن نمد أيدينا لجميع دول العالم؛ سواء في ذلك دوله الكبرى أو الدول الصغرى الناشئة. هكذا مددنا أيدينا بالرغبة في التعاون إلى

الولايات المتحدة الأمريكية، ومددنا أيدينا بالرغبة في التعاون مع الاتحاد السوفيتي بوصفهما أكبر الدول في زماننا الذي نعيش فيه.

ولقد كان سرورنا عظيما أن يدنا الممدودة بالرغبة في التعاون مع الاتحاد السوفيتي لقيت استجابة حارة استطعنا بها إقامة علاقات من الصداقة الوثيقة المتكافئة بين الشعب العربي وبين شعوب الاتحاد السوفيتي؛ هذه الصداقة التي أكدتها تجارب التعاون الاقتصادي الوثيق الذي بلغ ذروته باشتراك الاتحاد السوفيتي معنا في بناء السد العالي، كما أكدتها وقفة الاتحاد السوفييتي الحازمة تأييدا لنا في معركتنا الكبرى ضد الاستعمار.

وبنفس القدر كان أسفنا عظيما أن يدنا الممدودة بالتعاون إلى الولايات المتحدة الأمريكية لم تجد ما كنا نتمناه من استجابة؛ بسبب ارتباطات السياسة الأمريكية مع دول الاستعمار التي جربنا استبدادها بنا ونهمها الدائم إلى السيطرة علينا، كذلك كانت ارتباطات السياسة الأمريكية بالصهيونية العالمية عقبة مستمرة في وجه كل محاولاتنا للتفاهم مع الولايات المتحدة.

ولقد كان من دواعي الأسف أن الولايات المتحدة لم تستطع أن تقدر أصالة القوة النامية للشعوب العربية، ومن ثم وجدنا السياسة الأمريكية في منطقتنا تتخبط إلى غير نتيجة تصل إليها، اللهم إلا ارتباطها بالاستعمار والصهيونية ثم ببعض العملاء من الرجعيين وجلادي شعوبهم.

وبرغم أن الصف الأول من هذه المجموعة من العملاء قد سقط أمام زحف الشعوب الواعية في عدد كبير من العواصم العربية؛ فإن السياسة الأمريكية لم تدرك بعد درس الحوادث، وهو أنه يتعين على الذين ينشدون التعاون مع العالم العربي أن يفهموا أن الشعوب العربية وحدها هي مالكة قدرها صانعة مصيرها.

وإنه لمن واجبات الإنصاف على أي حال أن نسجل للولايات المتحدة موقفها ضد العدوان على مصر سنة ٥٦ هذا بصرف النظر عن أن السياسة الأمريكية لم تلبث بعد العدوان إلا قليلا حتى عادت تحاول تنفيذ نفس أهداف العدوان، وإن اختلفت الوسائل.

ولقد كان من أبرز خطوات ثورتنا الوطنية - أيها الإخوة - هو الاهتمام الذي أولته شعوبنا لقضية التضامن الإفريقي - الآسيوي، فلقد كانت شعوبنا من الرواد الأول لبلورة فكرة هذا التضامن وإبراز وجوده، ثم كانت من رواد العمل لتدعيم روح باندونج، وذلك بجهودها في مناصرة الحرية وبالاستعداد الدائم لكل عمل يتجه إلى تطوير الحياة بالقارتين العظيمتين، وكان الأمل الكبير أن تتمكن هذه الدول الصاعدة - ونظرتها إلى المسائل متقاربة بتشابه ظروفها سواء في ماضي كفاحها أو في مستقبل تطلعها إلى حياة أفضل - من أن تقوم بدور إيجابي من أجل السلام، وذلك بأن تحاول مع غيرها من دول العالم غير المتحيزة أن تخلق تيارا عاما يكون بمثابة الضمير الذي يواجه المشاكل بميزان متحرر، ويصدر فيها رأيه المنزه عن الهوى والغرض. ولقد كان ذلك دور تحتمه مصلحة السلام العالمي وتفرضه في جو استحكم فيه الخلاف بين الدول الكبرى، وزادت حدة الحرب الباردة وتكدست أسلحة الدمار الذرى فيه، تملأ المخازن والقواعد المنتشرة يواجه بعضها بعضا، ويتربص بعضها للبعض الآخر.

في وسط هذا الجو كانت حاجة العالم ماسة إلى ضمير يهتف في وجدانه بنداء الحق الخالص المجرد، كذلك كان وجود عدد غير منحاز من الدول، فضلا عن قيمته كضمير يصنع من ناحية أخرى أرض لقاء بين المعسكرات، وجسرا يفتح أبوابا للأمل وسط سدود الشكوك والأحقاد التي انتهت إليها سياسة الكتل، وكان مما يشجع تفانينا في العمل من أجل السلام أن هذا السلام وإن كانت ضرورته للبشرية كلها لا تحتاج إلى جدل، فإن استقراره بالنسبة لنا يحمل قيمة حيوية خاصة؛ ذلك أنه في جو السلام وحده تستطيع الدول التي لم تستكمل نموها الاقتصادي أن تباشر تطورها موجهة إليه كل جهودها حتى تستطيع أن تعيش في القرن العشرين على مستوى الحياة اللائق بالقرن العشرين. ولقد كان انتصارا لثورتنا الوطنية في اتجاهاتنا البعيدة العريضة أن نرى الدول التي تمثل ضمير العالم وقد اتسعت دائرة دعوتها وزادت فاعلية وعمقا.

كذلك كان انتصارا لثورتنا الوطنية أن نرى المبادئ التي آمنا بها داخل حدودنا - والاستقلال وعدم الانحياز رأس القائمة بينها - تكسب أرضا جديدة كل يوم، وتجتذب

إليها قوى شعبية ضخمة، كذلك كان انتصارا لثورتنا الوطنية أن نشعر بالأثر الواسع المدى لتأميم قناة السويس في كل بلدان آسيا وإفريقيا؛ سواء من ناحية صمودنا للتجربة أو من ناحية انتصار قوى الخير لنا. لقد كانت هذه الخطوة مثالا حيا ونابضا على قدرة الشعوب الصغيرة على أن تنتصر بحقها، وعلى أن تهزم بإيمانها جيوش الدول الكبرى وأساطيلها، كذلك كانت هذه الخطوة مثالا حيا ونابضا على التأييد العظيم الذي يمكن أن يلقاه كل المدافعين عن حريتهم وكرامتهم، وكان هذا المثال نقطة تحول بارزة في تاريخ الكفاح الإفريقي أسرعت بعده الحوادث، وخفقت مع رياحه أعلام الحرية والاستقلال في بلاد كثيرة ونائية في قلب القارة المجاهدة، كذلك كان انتصارا لثورتنا الوطنية أن نشعر بالتأييد الواسع المدى لمعارك الحرية، وإن التأييد العالمي الذي يلقاه كفاح الشعب الجزائري الحر لمقياس ظاهر في هذا المجال.

كذلك كان انتصارا لثورتنا الوطنية أن نرى هذا الضغط العالمي الذي يوجه ضد التفرقة العنصرية، والضغط العالمي الذي يوجه ضد إجراء التجارب على الأسلحة النووية فضلا عن استعمالها في حرب مدمرة، كذلك كان انتصارا لثورتنا الوطنية أن نرى بوادر وعى عالمي بمشاكل الدول التي تتطلع إلى تطوير نفسها؛ استجابة لنداء الشعوب الآسيوية - الإفريقية بأن السلام لا يمكن أن يستقر مع وجود تفاوت مخيف بين مستويات المعيشة في الدول التي استكملت حظها من النمو وبين مستوياتها في الدول التي مازالت تتطلع بعد إلى هذا الأمل.

أيها الإخوة المواطنون:

كانت تلك هي حصيلة ثورتنا الوطنية ضد الاستعمار؛ هذه الثورة التي تركزت بالتجارب في طلب السلام، وجعلت العمل من أجله والحركة الدائبة في اتجاهه عقيدة من عقائدنا.

ولقد كان هذا - أيها الإخوة المواطنون - يحتم وجود خطة شاملة يجرى التطوير الاقتصادي والاجتماعي وفقها وعلى أساسها. ولكن وضع خطة شاملة كان يتطلب أن تستبين الصورة كلها وتدرس دراسة مفصلة، وفى نفس الوقت كانت الظروف تحتم بدء العمل دون أي تأخير. ولقد وضعت بعض المشروعات الحيوية كالحديد والصلب والسماد واستخراج الكهرباء من خزان أسوان موضع التنفيذ على الفور. كانت هذه المشروعات أماني شعبية طالما شدت الخيال إليها وكان وضعها موضع التنفيذ الفوري تطلعا نبيلا إلى الأمام وحافزا صاعدا إلى أعلى، ثم وضع بعدها أول مشروع للسنوات الخمس في الإقليم المصري، وكان مما أكد إقبالنا على العمل وقدرتنا على تحمل مشاقة أن هذا المشروع تم بالفعل في سنتين.

هكذا وصلنا - أيها الإخوة - إلى نهاية عام ١٩٥٩ وقد زادت قيمة إنتاجنا الصناعي في الإقليم المصري إلى ٥٠٥ مليونا من الجنيهات في السنة بعد أن كانت ٢٣٩ مليونا من الجنيهات سنة ١٩٥٢. ولقد سجل إنتاجنا الصناعي زيادة باهرة في نواحي مختلفة؛ لقد زاد إنتاجنا من سنة ٥٢ إلى سنة ٥٩، زاد إنتاجنا من غزل القطن بنسبة ٧١%، وزاد عدد

مغازلنا بنسبة ٣٤٠%، وزاد إنتاجنا من السماد الآزوتى ١٣٥%، وزاد إنتاجنا من الأسمنت ٥٦%، وزاد إنتاجنا من السكر ٧٠%، وزاد إنتاجنا من الورق ١٤١%، وزاد إنتاجنا من البترول ٤٨%، وزاد إنتاجنا من غزل الصوف ٢٣٥%، وزاد إنتاجنا من نسيج الصوف ١٨٠%، وزاد إنتاجنا من غزل الحرير الصناعي ٢٠٠%، وزاد إنتاجنا من نسيج الحرير الصناعي ٩١%، وزاد إنتاجنا من غزل الجوت ٢٢٣%، وزاد إنتاجنا من صناعة الزجاج والبلور ٢٦٣%، وزاد إنتاجنا من البطاريات السائلة ٣٧٢%، وزاد إنتاجنا من المصابيح الكهربائية ٢٠٠%، وزاد إنتاجنا من خامات الألوان ٣٨٠%.

كذلك - أيها الإخوة - استحدثت على إنتاجنا الوطني أنواعا من المصنوعات كنا نستوردها من قبل ولا نصنعها في بلادنا، وفى خلال العام الماضي وحده أنتجنا في بلادنا من هذه الأصناف التي لم يكن لنا سابق عهد بإنتاجها ١٦ ألف و٢٧ طن من ألواح الصاج المسحوب، ٢٨.٢٧٣ طن من قضبان السكك الحديد، ٤٥٠ عربة من عربات السكة الحديد، ١٧٠٠ طن من الأدوية، ٥٠٠٠ طن من المبيدات الحشرية، ٢٩٥ ألف إطار من إطارات كاوتشكوك السيارات، ٥٢.٩٤٣ وحدة من تيل الفرامل، مليون من أقلام الرصاص، ٢١.٢٢٧ من أجهزة البوتاجاز، ٥٢.٩١٣ من اسطوانات البوتاجاز، ٤٠٠٠ ثلاجة كهربائية، ٤٠٠٠٠ عداد كهربائي، ٢٠٠٠ جهاز لتكييف الهواء، ٣٠ ألف جهاز راديو. كذلك - أيها الإخوة - خرجت إلى السوق فعلا خلال الشهور التي مضت أنواع أخرى من منتجاتنا؛ خرجت سيارة نقل الركاب العربية، وخرجت سيارة نقل البضائع العربية، بل إنه ليسعدني - أيها الإخوة المواطنون - أن أعلن الآن أن أول طائرة نفاثة صنعت في الإقليم المصري قد طارت بالفعل في الجو العربي منذ عشرة أيام لأول مرة، وأن هذه الطائرة قد أثبتت صلاحيتها الممتازة للتدريب على الطيران النفاث، وأن إنتاجنا منها يكفى حاجتنا، ويكفى حاجة أي بلد عربي يريد تجربتها واستعمالها.